محاضرات في العقيدة (1)

 

 

البيان القويم

 

لوجه عدم ذكر أسماء أهل البيت (ع)

صراحةً في القران الكريم

 

 

محاضرات

الشيخ أحمد الماحوزي

 

 

تحـرير

أبو أحمد الحبيب         محمد عبدالله نجم

 

 

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الكتيب الذي بين يديك ـ عزيزي القارىء ـ محاضرة لسماحة العلاّمة الشيخ أحمد الماحوزي حفظه الله ورعاه ، بحث فيه مسألة مهمة من مسائل الامامة ، وهي : « الوجه في عدم ذكر أسماء أهل البيت عليهم السلام صراحةً في القران الكريم » .

وكانت انطلاقة البحث مفاد الاية الكريمة ( انما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، والتي تبيّن عدم خلو الارض الى يوم القيامة من حجة لله تعالى ، وهذا الحجة إما نبي مرسل او امام هاد ، ثم ذيّل ذلك بآيات أخرى تعطي نفس المفاد ، وبعد ذلك دخل في صلب الموضوع .

وقد حاول شيخنا الجليل تعليل ذلك بوجوه سديدة راعى فيها الاسلوب المبسط والواضح لعامة الناس وكافة المستويات ، حتى تتحقق الغاية المنشودة من طرح هذا النمط من المحاضرات «محاضرات في العقيدة» وهي دفع الشبهات ورد التساؤلات التي تتوارد في أذهان الموالين لأهل بيت العصمة عليهم السلام رزقنا الله شفاعتهم في الدنيا والاخرة .

ولقد قام الاخ الفاضل «أبو أحمد الحبيب» بإعداد وتحرير هذه المحاضرة وطبعها بحلة قشيبة جزاه الله أحسن الجزاء ، ولمّا نفذت النسخ وكثر الطلب من قبل عدّة من المؤمنين على اعادة طبعها مرة ثانية ، سارعت في تلبية طلبهم وقمت بإضفاء بعض التعديلات وزيادة بعض المطالب إتماماً للفائدة وتعميقاً للبحث مع بعض التعليقات المناسبة والمقتضبة .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله في ميزان أعمالنا يوم لاينفع مال ولابنون ، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .

 

محمد عبدالله نجم         

غرة ربيع الاول لسنة 1422   

الكويت               


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

        ( انما انتَ منذرٌ ولكلِّ قوم هاد ) ([1])

 

يستفاد من هذه الاية الكريمة عدم خلوّ الارض الى يوم القيامة من حجة لله تعالى ، وهذا الحجة : أما نبيٌ منذر ، أو امامٌ هاد ، يهدي الناس للحق بامر الله عز وجل ، المشار إليه في قوله ( وجعلناهم أئمة يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ([2])  .

وقد استفاضت الروايات عن طريق الخاصة والعامة في تطبيق هذه الاية الكريمة على الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، وعلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فالمنذر هو الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، والهادي هو علي ابن ابي طالب عليه السلام .

روايات العامة

قال عبدالله بن الامام احمد : حدثني عثمان بن ابي شيبة حدثنا مطلب بن زياد عن السدي عن عبد خير عن علي عليه السلام في قوله عز وجل ( إنما انت منذر ولكل قوم هاد ) ، قال : رسول الله صلى الله عليه واله المنذر ، والهاد رجل من بني هاشم ([3])  .

ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : رواه عبدالله والطبراني في الصغير والاوسط ورجال المسند ثقات ([4])  .

وقال الطبري : حدثنا احمد بن يحيى الصوفي حدثنا الحسن بن الحسين الانصاري حدثنا معاذ بن مسلم الهروي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت ( انما انت منذر ) وضع صلى الله عليه واله يده على صدره فقال : أنا المنذر ولكل قوم هاد ، وأومأ بيده الى منكب علي فقال : انت الهادي ياعلي بك يهتدي المهتدون بعدي ([5])  .

ابن الاعرابي وابن عساكر والحاكم النيسابوري : عن الحسين بن الحسن الاشقر انبأنا منصور بن ابي الاسود عن الاعمش عن المنهال عن عباد بن عبدالله عن علي قال : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال علي : رسول الله المنذر وأنا الهادي ([6])  .

وفي الدر المنثور : اخرج ابن جرير وابن مردويه وابو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجار قالوا : لما نزلت (  انما انت منذر ولكل قوم هاد ) وضع رسول الله صلى الله عليه واله يده على صدره فقال : أنا المنذر ، وأومأ بيده الى منكب علي فقال : أنت الهادي ياعلي بك يهتدي المهتدون من بعدي .

وعن زوائد المسند وابن ابي حاتم والحاكم ـ وصححه ـ وابن مردويه وابن عساكر والطبراني في الاوسط عن علي بن ابي طالب ـ في تفسير الاية ـ قال : رسول الله المنذر ، وأنا الهادي ، وفي لفظ : والهادي رجل من بني هاشم ، يعني نفسه ([7]) .

قلت  : ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن : ابن عباس بعدة اسانيد ، وعن ابي برزة الاسلمي بثلاثة اسانيد ([8])  ، وعن ابي هريرة ، وعن علي بن ابي طالب عليه السلام ، وعن يعلي بن مرة ، وعن الزرقاء الكوفية ، وعن مجاهد ([9])  .

روايات الخاصة

روى ثقة الاسلام الكليني والصدوق عن محمد بن مسلم قال قلت لابي عبدالله عليه السلام في قوله تعالى ( انما انت منذر ولكل قوم هاد )فقال : كل امام هاد للقرن الذي هو فيهم .

وفيه عن ابي بصير قال : قلت لابي عبدالله عليه السلام ( انما انت منذر ولكل قوم هاد ) فقال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : انا المنذر وعلي الهادي ، ياابا محمد هل من هاد اليوم ؟ فقلت : جعلت فداك : مازال منكم هاد من بعد هاد حتى رفعت إليك ، فقال : رحمك الله ياأبا محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الاية مات الكتاب ولكنه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى ([10])  .

القرآن والامامة

فالاية تثبت بصراحة ضرورة وجود هاد للامة لكل جيل وزمان ، وليس اثبات هذه الحقيقة منحصر بهذه الاية ، بل هناك آيات أخرى أيضاً تثبت هذه الحقيقة القرآنية من هذه الايات على نحو الاختصار :

1 / قوله تعالى  ( وأطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم ) ([11])  فطاعة اولي الامر على وزان طاعة الرسول صلى الله عليه واله ، وهي طاعة مطلقة غير مقيدة ، فهي ليست على غرار طاعة الوالدين المقيّدة في القرآن بقوله ( وإن جاهداك على ان تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما ) ([12])  ، واذا كانت طاعة اولي الامر مطلقة ـ كطاعة الرسول صلى الله عليه واله الذي هو أولى من المؤمنين من أنفسهم ـ فهي تقتضي العصمة كما حقق في محله فراجع ([13])  .

2 / قوله تعالى  ( إنما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون ) ([14])  ، ودلالة هذه الاية على امامة وولاية اُولي الامر لعلها أوضح بكثير من الاية السابقة ، لمكان الحصر في الاية بأن الولاية لله وللرسول ولاولي الامر ، والتفصيل في المطولات .

3 / قوله تعالى ( إني جاعل في الارض خليفة ) وليس مطلق الانسان هو خليفة لله بالفعل ، وإنما خليفته بالفعل هو ذلك الانسان الذي يعلم الاسماء ، تلك الاسماء التي كانت الملائكة تجهلها ، نعم مطلق الانسان له القابلية في أن يكون خليفة لله بالفعل ، بخلاف بقية الموجودات فليست لها قابلية ذلك ، فإذا علم الاسماء فهو خليفة لله بالفعل واذا لم يعلمها فهو خليفة الله بالقوة والقابلية .

وحيث أن هذا الجعل الالهي مستمر الى يوم القيامة ، اذ الجعل الالهي يقتضي التأبيد ، فلو لو يكن هناك اتصال في خلافة الله في الارض لم تصدق قضية «جاعل في الارض خليفة» فإطلاق الاية ومادة الجعل يشهدان على ان الخلافة في كل زمان ولكل جيل  ، وأنه  هناك من يعلم الاسماء على طوال  الخط  الى يوم القيامة ، فخلافة الله كانت ولاتزال وستبقى الى يوم القيامة .

فالله سبحانه وتعالى خاطب الملائكة بأنه جاعل في الارض خليفة ، وكلمة «خليفة» في الاية نكرة وليست بمعرفة ، ولم يقل اني جاعل آدم في الارض خليفة ، حتى يقال بان الخلافة منحصرة بآدم ، بل آدم مصداق من مصاديق الخليفة .

وبما أن القرآن لكل زمان ومكان وان مصاديق الايات في حالة تجدد وتغير فلا بد من مصداق تنطبق عليه الاية في هذه الايام المعاصرة .

مضافا الى أن استعمال صيغة «جاعل» وهي صيغة «فاعل» هي بمثابة الفعل المضارع والفعل المضارع يفيد الاستمرار والدوام ، فاسم الفاعل في الاية «جاعل» يعمل عمل الفعل ، إذ من شروط عمل اسم الفاعل عمل الفعل ان يكون خبراً ، وهو في الاية واقع خبراً لان ([15])  ، فاعراب خليفة يكون مفعولا به لاسم الفاعل ([16])  .

إذا عرفت ذلك : فأصل مسألة الامامة وضرورة وجود الحجة والهادي للبشرية في كل زمان وجيل تكفل بإثباته القرآن الكريم كما هو واضح من الايات المتقدمة ، نعم السنّة المطهرة تكفلت بذكر مصاديق ذلك الاصل وعيّنت من هم الهداة الى يوم القيامة ، وصرّحت على أن أول الهداة هو علي بن ابي طالب ، وأن اُولي الامر لكل زمان ومكان متمثل في العالم من آل محمد صلى الله عليه واله ، كما هو صريح حديث الثقلين وسفينة نوح وغيرهما من الاحاديث الصريحة على امامتهم عليهم والسلام .

ولسان حديث الثقلين : « إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي فإنها لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » فالذي خلّفه الرسول صلى الله عليه واله لامته هو : القرآن الكريم ، وأهل البيت عليهم السلام مفسري ومبيّني الذكر الحكيم ، وقوله « لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » إشارة واضحة على وجود الخليفة والهاد من أهل البيت عليهم السلام في كل زمان ومكان ، لوجود القرآن كذلك ([17])  .

وحديث الثقلين من الاحاديث المستفيضة بل المتواترة لرواية أكثر من عشرين من الصحابة له ، وقد ذكر ناصر الدين الالباني هذا الحديث ضمن أحاديث سلسلته الصحيحة ، وخرّج بعض طرقه وأسانيده الصحيحة والحسنة ، وذكر بعض شواهده وحسنها ، ووصف من ضَعَّفَ هذا الحديث بأنه حديث عهد بصناعة الحديث ، وأنه قصر تقصيراً فاحشاً في تحقيق الكلام عليه ، وأنه فاته كثير من الطرق والاسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة ، فضلا عن الشواهد والمتابعات ، وأنه لم يلتفت الى أقوال المصححين للحديث من العلماء ، إذ اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة دون غيرها ، فوقع في هذا الخطأ في تضعيف الحديث الصحيح ([18])  .

والسؤال المطروح :

لِمَ لم يتكفل القرآن الكريم بذكر أسماء اهل البيت عليهم السلام حتى يرتفع الخلاف والتشاجر بين المسلمين ولكي تجتمع الامة على الاعتقاد بهم ، أوليس من اللطف والرحمة والشفقة على هذه الامة المتصفة بانها الامة المرحومة ذكر أسماء اهل البيت عليهم السلام صراحةً في القرآن الكريم حتى لايبقى مجال للتأويل والتوجيه والاختلاف بين المسلمين بكافة فرقهم ، وحتى تنتهي المشكلة ويتحد المسلمون فيما بينهم .

فإذا كان الاعتقاد بأن علياً عليه السلام والحسن والحسين والتسعة من صلب الحسين عليهم السلام من أصول الدين ـ لا من فروعه ـ فَلِمَ لم يحسم الخلاف والنزاع بذكر أسمائهم في الذكر الحكيم كما ذكر إسم النبي الخاتم صلى الله عليه واله بقوله (  محمد رسول الله ) ([19])  .

في مقام الاجابة على هذا السؤال نذكر أموراً أربعة  :

الامر الأول : السؤال عام ومطّرد .

أن هذا السؤال او هذا الاشكال عام لايختص بباب الامامة فحسب ، بل هو إشكال وسؤال يطرد في جميع المسائل والاحكام الشرعية سواء المرتبطة بالعقيدة او الممارسات الشرعية الفرعية .

فمثلا مسألة الجبر والتفويض من أمهات المسائل الكلامية المرتبطة بالتوحيد والعدل ، وقد وقع الخلاف فيها بين الامة الى ثلاث فرق :

فرقة قالت : بالجبر ، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يجبر الانسان على فعل القبيح ثم بعد ذلك يعاقبه عليه ، وهذا هو المنسوب لمعظم المسلمين من الاشاعرة «أهل السنّة والجماعة» ، وهذا يتنافى مع مقتضى العدل والحكمة من الخلق والايجاد .

وفرقة اُخرى قالت : بالتفويض ، اي ان الله خلق السنن والقوانين وأعطى للانسان القدرة على التصرف والحركة ثم بعد ذلك رفع يده عنه وتركه وشأنه ، فلو فرض محالاً ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ انعدام الخالق لما أثّر ذلك على المخلوق ولاستمر في وجوده وحركته .

وكلا الفرقتين تستدل على مدعاها بالقران الكريم .

وفرقة ثالثة ـ اتباع أهل البيت ـ قالت : انه لاجبر ولاتفويض وانما أمر بين امرين ، جمعا بين الايات الكريمة حسب مايقتضيه الدليل العقلي والكشفي ، وان القائل بالجبر بمثابة الكافر والقائل بالتفويض بمثابة المشرك ، اذ الاول نفيٌ للعدالة الالهية والحكمة من الخلق ، والثاني شركٌ لله تعالى كما هو واضح .

وهذه المسألة من أعظم المسائل اختلافا بين المسلمين وأعقدها ولازالت ، ومرتبطة بأصول الدين ، ولاتقل أهمية عن الامامة والخلافة ، فيأتي السؤال أليس من الحكمة أن تحسم هذه المسألة بآية قرانية صريحة على أحد الاقوال الثلاثة المتقدمة .

كذلك الأمر بالنسبة لحقيقة الصفات والاسماء ، واختلاف المسلمين في كيفية اتصاف البارىء عز وجل بالصفات الكمالية والجمالية ، وقس على ذلك عدة من المسائل المرتبطة بأصول الدين والتوحيد والرسالة والمعاد .

أما في الفروع ومسائل الفقه فحدث ولا حرج ، فقد اختلف المسلمون في الايات الواضحة الدلالة كآية الوضوء التي لاتحتمل أكثر من معنى واحد ، وهي صريحة على ان الوضوء غسلتان ومسحتان ([20])  ، فضلا عن تلك الايات التي لايأبى ظاهرها عدةً من المعاني .

وخير نقض ـ أيضاً ـ على هذا التوهم والاشكال ، مسألة المحكم والمتشابه في القرآن الكريم ، فلم أودع الله سبحانه وتعالى في كتابه متشابهات ، فقال ( فيه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات  ) لِمَ لم يُجعل القرآن كله محكماً مبيناً واضحاً دلالة ومعنىً  .

فالجواب على هذا التوهم والاشكال في غير مسألة الامامة هو الجواب عليه في المقام ، وسيأتي في الامر الثالث .

الامر الثاني : كفاية تعرّض القرآن لكبرى وأصل الامامة .

هذا الاشكال إنما يكون له لوناً علمياً فيما اذا لم يتعرض القران أصلا لقضية الامامة ، أما اذا تعرض لكبرى الامامة فهذا الاشكال يكون أوهى من بيت العنكبوت .

توضيح ذلك : تارة الخلاف يكون في كبرى الامامة ، بمعنى هل ان الله سبحانه وتعالى كما بعث مرسلين ومنذرين وأنبياء ورسل للامم على طوال التاريخ خلف من بعدهم أوصياء وأئمة يسيرون بخطاهم في طريق هداية الناس والعباد ، أم لا ؟

واخرى يكون الخلاف في صغرى مسألة الامامة ، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى بعد أن جعل خلفاء بعد الرسل والانبياء ([21])  ، يأتي السؤال من هم هؤلاء الاوصياء والائمة .

ومثال واضح على ذلك مسألة الامام المهدي عليه السلام ، فالاعم الاغلب ان لم يكن الكل ـ في هذه الايام المعاصرة ـ يقبل تلك الاحاديث المتواترة والمستفيضة والصحيحة المبشّرة بخروجه عليه السلام ونزول عيسى عليه السلام من السماء والإتمام به ، فأصل فكرة المهدوية لاأحد من المحققين والمتتبعين ينكرها .

فكبرى مسألة الامام المهدي الكل ـ على الظاهر ـ يقبلها ويسلم بها بل يجعلها من ضرورات الدين الاسلامي ، وانما وقع الخلاف في من هو الامام المهدي عليه السلام ، اي في صغرى مسألة الامام المهدي ، فيكون الخلاف في تشخيص المصداق ومن هو الامام المهدي، هل ولد أو سيولد ، وهل هو ابن الحسن العسكري الذي تعتقد به الشيعة الامامية ام انه شخص آخر من ولد علي وفاطمة عليهما السلام .

ودأب القرآن الكريم في آياته وسوره التعرض دائماً لكبرى المسائل العقائدية والفقهية الفرعية ، وبتعبير آخر لاصل المسائل وأساسها ، وقليلا مايتعرض للتفصيلات وصغرى المسائل وتحديد المصاديق والاشخاص ، بل يُوكل بيان ذلك للرسول الاكرم صلى الله عليه واله .

وعليه : فلو لم يتعرض القرآن لاصل مسألة الامامة لكان هذا الاشكال له صبغته العلمية بدوياً وعند النظرة الساذجة ([22])  .

وقد أشار الائمة عليهم افضل الصلاة والسلام الى هذا الامر جواباً عن هذا الاشكال ، إذ كان مطروحاً في زمانهم عليهم السلام .

فعن ابي بصير قال سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قوله عز وجل (  واطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم )فقال : نزلت في علي والحسن والحسين ، فقلت له : ان الناس يقولون : فما له لم يُسَمِّ علياً وأهل بيته عليهم السلام في كتاب الله عز وجل ؟ قال : فقال : قولوا لهم : ان رسول الله صلى الله عليه واله نزلت عليه الصلاة ولم يُسمِّ الله لهم ثلاثا وأربعاً ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه واله هو الذي فسر ذلك لهم ، ونزلت عليه الزكاة ولم يُسمِّ لهم من كل أربعين درهما درهم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه واله وهو الذي فسر ذلك لهم ، ونزل الحج فلم يقل لهم : طوفوا اسبوعاً ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه واله هو الذي فسر لهم ذلك ، ونزلت ( واطيعوا الله واطيعوا الرسول واُولي الامر منكم  ) نزلت في علي والحسن والحسين ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » ([23])  ، وقال صلى الله عليه واله « اوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي فاني سألت الله عز وجل ان لايفرق بينهما حتى يردهما عليّ الحوض فأعطاني ذلك » وقال « لاتُعَلِّمونهم فهم أعلم منكم » ، وقال « انهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم باب ضلالة » ، فلو سكت رسول الله صلى الله عليه واله فلم يبين من أهل بيته لادعاها آل فلان وآل فلان ، لكن الله عز وجل انزله في كتابه تصديقا لسنّته صلى الله عليه واله ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام فأدخلهم رسول الله صلى الله عليه واله تحت الكساء في بيت ام سلمة ثم قال : اللهم ان لكل نبي اهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي ، فقالت ام سلمة : ألست من اهلك ؟ فقال : إنك الى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي » ([24])  .

وفي صحيحة الفضلاء ـ زرارة والفضيل وبكير وابن مسلم وبريدة وابو الجارود ـ عن ابي جعفر عليه السلام قال : أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي عليه السلام وأنزل عليه ( إنما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون ) وفرض ولاية أولي الامر ، فلم يدروا من هم ، فأمر الله محمداً صلى الله عليه واله أن يفسر لهم الولاية كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ([25])  .

فالاشكال هنا لاينحصر في عدم ذكر أسماء الائمة عليهم السلام ، وإنما ينسحب الى هيئة الصلاة وكيفية الطواف وعدد الاشواط ومفطرات الصوم والحلال والحرام من المأكولات والمشروبات  ...  وهنا يأتي دور السنّة المطهرة في تبيان وتفصيل مااجمله وأسّسه وأصّله القرآن الكريم .

الامر الثالث : السّنّة شريكةُ القرآن .

أن البيان الشرعي لاينحصر بالقران الكريم ، بل هو شريك للمعصوم ، فكما أن القرآن وحيٌ كذلك السّنة وأقوال المعصوم وحيٌ ، فأحدهما مكمّل للاخر ومفسر ومبين له ، وإليه أشار تعالى في قوله ( وأنزلنا إليك الذّكر لتبين للناس مانزّل إليهم ولعلهم يتفكرون )وقوله ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيَّن لهم الذي اختلفوا فيه ) ، فالتبيين والتفسير والتوضيح هي من وظائف المعصوم ، ولذا لابد من التمسك بالقران والمعصوم لنيل المعارف الالهية ، والاقتصار على احدهما خروج عن الجادة التي وضعها الله لعبادة ، وهذا هو مفاد حديث الثقلين المتواتر .

فهذا الاشكال لايصدر إلا من آمن واعتقد بالمقولة المعروفة «  حسبنا كتاب الله » ، والقران الكريم يرفضها ويجعل محور الايمان به هو اتباع الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، وبذلك صرّح في آيات عديدة كقوله تعالى ( إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله  ) ، والظاهر ـ بل المحقق ـ أنه لا أحد يعتقد بهذه المقولة ولايوجد من يقتصر على القرآن الكريم في التشريع والافتاء ويرفض السّنة المطهرة ، وإن وجد فهو منكر للضروري وحكمه الكفر والالحاد بإتفاق المسلمين .

وعليه : فلا محل لهذا الاشكال بعد أن تكفل الرسول الاكرم صلى الله عليه واله في بيان مصاديق الائمة وخلفاء الله في الارض من بعده ، في أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها .

أما لِمَ كانت وظيفة الرسول صلى الله عليه واله والمعصومين من آل بيته بيان وتفسير وتوضيح القرآن ([26])  ـ مع انهم والقران في النظر الدقي وجهي لعملة واحدة ـ فلأسباب عدة منها :

1 / أن المعارف الالهية لاينالها الناس بلا وساطة ، بل لابد من وساطة المعصوم لبيانها وتوضيحها ، حتى بالنسبة للعرفاء المدعين للكشف والشهود فان ذلك لايتحقق لهم الا بوساطة المعصوم وهو الذي يقتضيه إيمانهم بالنور والحقيقية المحمدية الذي هو محور كلامهم ، هذا على فرض صحة كشفهم أو صدق بعضهم في دعوى المكاشفة والشهود .

2 / أن القرآن نزل لكافة الناس في جميع الامصار وفي كل الاعصار ، وهم على شرائح مختلفة في الفهم والاستيعاب والتلقي ، والإحكام والوضوح والتشابه أمر نسبي ، فربما آية هي عند بعض العلماء من المحكمات وعند آخر من المتشابهات ، بل قد تكون الاية الواحدة يدور أمرها بين الاحكام والتشابه لشخص واحد باختلاف الزمان والحال ، وقس على ذلك  .

من هنا تأتي أهمية الرجوع الى من يكون القرآن بأكلمه عنده من المحكمات وليس هو إلا المعصوم ، وإليه اشار تعالى في قوله ( بل هو ـ أي القرآن ـ آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم ومايجحد بآياتنا إلا الظالمون ) وبما أن القرآن ليس بآيات بيّنات بالنسبة لغير المعصوم فلا بد من مراجعة المعصوم لاخذ بيان الايات منه ([27])  ، لاحتمال ان تكون الايات المحكمات ـ في نظرنا ـ هي مقيدة او مخصصة او منسوخة بالايات المتشابهات .

مضافا الى ان للقران بطن وظهر ، ولبطنه بطن ، ولبطن بطنه بطن وهلما جرا الى ما لانهاية ، وذلك لعدم نفاد الكلمات الالهية (  قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ) وقال في آية اخرى ( ولو أنما في الارض من شجر أقلام والبحر يمده من بعده سبعة ابحر مانفدت كلمات الله ) ، وهذه البطون لايعرفها إلا  أهل الذِّكر ومن كانت الايات بأكملها عنده من الواضحات المبيّنات .

ففي القرآن : ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وخاص وعام ، ومقدم ومؤخر ، وعزائم ورخص ، وحلال وحرام ، وفراض وأحكام ، ومنقطع ومعطوف ومنقطع غير معطوف ، وحرف مكان حرف ، ومنه مالفظه خاص ، ومنه مالفظه عام ، ومنه مالفظه واحد ومعناه جمع ، ومنه مالفظه جمع ولفظه واحد ، ومنه مالفظه ماض ومعناه مستقبل ، ومنه مالفظه على الخبر ومعناه حكاية عن قوم ، ومنه ماهو خلاف تنزيله ، ومنه ما تأويله في تنزيله ، ومنه ماتأويله قبل تنزيله ، ومنه ماتأويله بعد تنزيله ، ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة أخرى ، ومنه آيات نصفها منسوخ ونصفها متروك على حاله ، ومنه آيات مختلفة اللفظ متفقه المعنى ، ومنه آيات متفقة اللفظ مختلفة المعنى ، ومنه آيات فيها رخصة واطلاق بعد الفريضة ، ومنه رخص ظاهرها خلاف باطنها ، ومنه مخاطبة لقوم والمعنى لاخرين ، ومنه مخاطبة للنبي صلى الله عليه واله ومعناه واقع على أمته ، ومنه لايعرف تحريمه الا بتحليله ، ومنه تأليفه وتنزيله على غير معنى ماأنزل .... ([28])  .

وبما أن البشر مختلفون في التعقّل والتعلّم والتقدم الوجودي والاتصاف بالكمالات والقرب الالهي ، وبما أن القرآن نازل للجميع فخطابه لابد أن يكون للجميع ، فالاية الواحدة لابد وان تكون لها مداليل ومعاني مختلفة بحسب فهم كل مكلف .

والاعتماد على النفس لجميع هذه الشرائح في فهم القرآن من دونِ استعانة بالمعصوم والخليفة والهاد ـ لكل زمان ـ عاقبته الخطأ والزلل والاشتباه والضلال ، ومن ثَمَّ الفسق والكفر والشرك والالحاد ، فلا بد من وجوب الرجوع الى من عنده علم الكتاب والقران ([29])  لكي يعطي كل مستعد على قدر استعداده .

3 / انما أوكل بيان المصاديق وتفصيل ماأجمله القرآن الى مقام النبوة والعصمة ، لتمحيص القلوب وتشخيص المؤمن من المنافق والمسلم من الكافر ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وليعرف أحباء الله من اعدائه ، إذ طاعة الرسول صلى الله عليه واله وطاعة من اوجب الله طاعته طاعة لله عز وجل بمقتضى قوله ( من اطاع الرسول فقد أطاع الله ) وقوله ( ان كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ) فَحُبُّ الله للبشر مسبب وفرع لاتباع الرسول ، فلا يعرف المؤمن من المنافق الا باتباع الرسول وعصيانه .

كما لايعرف المسلم من المؤمن إلا بذلك ( قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وأن تطيعوا الله ورسوله ) فطاعة الله وطاعة الرسول دعامة الايمان ، (  فلا وربّك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا حرجاً فيما قضيت ويسلموا تسليما ) .

الامر الرابع : الخوف من تحريف القرآن .

أن كفار قريش قد اشرأبت قلوبهم بغضَ علي بن ابي طالب وأهل بيته عليهم السلام ، بسبب قتل علي عليه السلام صناديدهم وأبطالهم ، فما من قبيلة من العرب وعائلة من قريش حاربت الرسول الاكرم صلى الله عليه واله إلا وقد أفنى عليٌ عليه السلام أبطالهم وفرسانهم وصناديدهم ، ففي بدر قتل عليه السلام الوليد واشترك في قتل عتبة وشيبة وفي ذلك تقول هند بنت عتبة زوجة ابي سفيان وأم معاوية :

أبي وعمي وشقيق بكري***بهم كسرت ياعلي ظهري

وفي معركة احد قتل في اللحظات الاولى من المعركة تسعة من صناديد وأبطال بني عبد الدار والعاشر كان عبدا لهم ، وقس على ذلك بقية حروبه اشتراكاً مع الرسول او حروبه الثلاثة بعد وفاته صلى الله عليه واله .

فبغض وكره قريش لابن ابي طالب من بديهيات المواد التاريخة التي لاتخفى على من له أدنى تطلع وتصفح للتاريخ ، مما أورث أبناءهم حقداً وحسدا وبغضا لعلي عليه السلام وذريته من بعده ، فقتلهم للحسين عليه السلام انما كان لمكان بغضهم لابيه عليه السلام ، وقد صرّحوا بهذا البغض خطاباً للحسين عليه السلام يوم العاشر من المحرّم فقالوا « إنما نحاربك بغضاً مِنّا لابيك » .

ولما آلت الخلافة لبني امية ـ وفي عصر معاوية بالخصوص ـ كان كل من يذكر علياً بالخير والعمل الصالح عاقبته السجن والقتل ، والويل لمن يروي منقبة او فضيلة لعلي واهل بيته ، ففي كلمة لمعاوية لجميع عماله في البلاد : انظروا الى من روى فضيلة لابي تراب فامسحوه من الديوان ... خذوهم بالتهمة واقتلوهم بالظنة ، والحوادث في ذلك كثيرة يصعب عدها .

ولم يكن المحدثون وعلماء الامة بأقل من الحكام في الاستنكار على من يروي فضيلة لابي تراب او يقدّمه على بعض الصحابة أو يجعل الحق معه قبال معاوية وغيره ([30])  ، والشواهد على ذلك كثيرة ليس المقام موضع ذكرها ، لكن نكتفي بذكر شاهد واحد وهو :

بعد رواية ابو الازهر حديث « ياعلي أنت سيد في الدنيا وسيد في الاخرة حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله ، والويل لمن أبغضك من بعدي » الذي رواه الحاكم النيسابوري وصححه على شرط الشيخين ، قال : أبو الازهر باجماعهم ثقة ، واذا انفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح ، ثم قال : سمعت أبا عبدالله القرشي يقول : سمعت الحلواني يقول : لما ورد أبو الازهر من صنعاء وذاكر أهل بغداد بهذا الحديث ، أنكره يحيى بن معين ، فلما كان يوم مجلسه قال في آخر المجلس : أين هذا الكذاب النيسابوري الذي يذكر عن عبدالرزاق هذا الحديث ؟!! فقام أبو الازهر ، فقال : هو ذا أنا ، فضحك يحيى بن معين من قوله وقيامه في المجلس وقرّبه وادناه ... الخ ومنشأ اتهام ابي الازهر بالكذب من قبل امام الجرح والتعديل ابن معين هو روايته فضيلة لابي تراب كما هو واضح .

وعليه : فلو ذكر اسم علي عليه السلام صراحة في القرآن الكريم وكذلك اسماء أهل بيته عليهم افضل الصلاة والسلام لما سلم القران الكريم من التحريف والتبديل والاسقاط ، فصوناً لعدم التحريف والتغيير في كتاب الله اقتضت الحكمة الالهية تأسيس أصل الامامة في القرآن الكريم وايكال ذكر الاسماء وتشخيص المصاديق للرسول صلى الله عليه واله .

وتوضيح ذلك : أن القرآن الكريم هو الجامع لوحدة المسلمين ، اذ مع الاختلاف الموجود بين الفرق الاسلامية المختلفة في العقائد والفروع وبقية المسائل المرتبطة بالتشريع والقانون الاسلامي ، الكل يزعم ان ذلك هو المستفاد من القرآن الكريم ، فالخلاف في الاعم الاغلب هو في فهم القرآن الكريم لافي كونه مصدراً للتشريع ، فلو افترضنا ان هذا القرآن حصل فيه زيادة ونقيصة واختصت كل فرقة بقران يختلف عمّا اختصت به الفرقة الاخرى كما حدث للتوراة والانجيل ، فإن وحدة المسلمين ستنثلم ، وتصبح كل فرقة تباين الاخرى في كل شيء .

من هنا اقتضت الارادة الالهية بحفظ هذا الكتاب من التحريف والتزوير والتغيير ، إلا أن هذه الارادة ليست على غرار الاعجاز الالهي المخالف لمقتضى العادة ، بل هي من قبيل تهيئة المقدمات واتباع الاسباب العادية والطبيعة لحفظ هذا القرآن بلا تدخل الاعجاز الالهي القاطع للعادة والسيرة الجارية والطبيعية .

فحفظ القرآن الكريم لايعني ان كل من أراد ان يحرّفه تقف الارادة الالهية أمامه ، إذ قامت بعض الدول الكافرة بطبع اعداد هائلة من القرآن الكريم المحرّف والمحذوف منه كل ما يذمّ فيه اليهود ، وإنما الحفظ يكون بتدبير إلهي وهذا التدبير يتوافق مع السنن الطبيعية والعادة المتبعة ([31]) .

فحفظ القرآن على غرار حفظ الرسول الاكرم صلى الله عليه واله من كيد الكفار والمنافقين وأهل الكتاب وفتكهم ، وحفظه صلى الله عليه واله ـ في الاعم الاغلب ـ ليس باعجاز إلهي ، إلا اذا اقتضت الارادة الالهية في بعض الموارد ذلك لبعض المصالح بياناً لصدق الرسول صلى الله عليه واله .

وعليه : فلو ذكر اسم علي وأسماء اهل بيته في القرآن الكريم صراحة ، لما سُلِمَ القرآن من التحريف ([32])  ، اذ شعار بني امية وقيام دولتهم كان بسبّ ابي تراب عليه السلام والتبرأ من أهل بيته ومحاصرتهم وايذائهم والتضيق على شيعتهم ، فحفظ واستمرار دولتهم وسلامها كانت تقتضي تحريف وحذف الاسماء حتى يتسنى لهم دوام الحكم والخلافة ، وهذا ما لاتريده الارادة الالهية .

فحفظ القرآن لايكون الا بالسكوت عن الاسماء والتشخيص وذكر المصاديق بشكل واضح ، وإيكال ذلك للرسول الذي هو عدل القرآن بمقتضى قوله تعالى ( وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى ) .

وهذا ما أشار إليه سيد الوصيين وقائد الغر المحجلين أمير المؤمنين عليه السلام في حديث شيّق وطويل له ، قال عليه السلام حينما سئل عن معنى الوجه في قوله تعالى ( أن تقول نفس ياحسرتا على مافرطت في جنب الله ) : إنما جعل الله تبارك وتعالى في كتابه هذه الرموز التي لايعملها غيره وغير أنبيائه وحججه في أرضه لعمله بما يحدثه في كتابه المبدلون من إسقاط أسماء حججه منه ، وتلبيسهم ذلك على الامة ، ليعينوهم على باطلهم ، فأثبت فيه الرموز ، وأعمى قلوبهم وأبصارهم لما عليهم في تركها وترك غيرها من الخطاب  ... الحديث .

الامر الخامس : الحفاظ على الائمة عليه السلام .

إنما لم تذكر أسماء الائمة عليهم السلام ـ صراحةً ـ في القرآن الحكيم حفظاً لهم من القتل ، وصوناً لهم من الاعتقال والتعذيب ، فهم عليهم السلام لم يذكروا بصراحة في القرآن الكريم ومع ذلك مامنهم إلا شهيد او مقتول .

وهذه نفس النكتة لعدم ذكر اسم الرسول الاكرم صلى الله عليه واله بشكل صريح في الكتب السماوية الاخرى ، بل اكتفى الله سبحانه وتعالى على لسان عيسى وغيره من الانبياء بقوله (  ومبشراً برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد ) ([33])  ، وذلك خوفاً من اغتيال اليهود له وفتك المشركين به صلى الله عليه واله ، وقد مر أن حفظ الرسول الاكرم صلى الله عليه واله بصورة عامة لايكون بالتدخل الاعجازي ، هكذا اقتضت الارادة الالهية وهو النظام الاحسن والامثل ، ولذا يكون صلى الله عليه واله قدوة وأسوة حسنة لنا ولجميع الناس ([34])  .

كما أنه لو ذُكرت اسماء الائمة عليهم السلام صراحة في القرآن الكريم لكثر من يتسمى بأسمائهم محاولة لاخذ بعض مراتب هذا المنصب ، ولحصل الخلاف أيضا في من هم المتسمُون بهذه الاسماء في الخارج ، فتحديد المفهوم والاتفاق عليه لايستلزم عدم الاختلاف والتشكيك في مصداقه الخارجي ـ كما بيّن ذلك في أصول الفقه ـ فتكون الشبهة مصداقية لامفهومية .

وتوضيح ذلك على نحو الاختصار : أن الخلاف والشك إما ان يكون في المفهوم او في المصداق ، فإذا قيل مثلا : اقتدِ بزيد ، وشك هل هو زيد بن أرقم ـ مثلا ـ او زيد بن ثابت ، فهذا شك في المفهوم من «زيد» في جملة «اقتد بزيد» ، اما اذا عرفنا أن المقصود منه زيد بن أرقم فلا شك من حيث المفهوم ، ولكن قد يتطرق الشك في كون هذا الشخص الخارجي هو زيد بن أرقم أو غيره فتكون الشبهة مصداقية ، وسواء كانت الشبهة مصداقية او مفهومية يكون الدليل مجمل ولايجوز ـ كما في المثال ـ الاقتداء بزيد .

وعليه : فذكر أسماء الائمة صراحة في القران الكريم لايؤمن من الاختلاف ، بل لعله يزيد في الخلاف مع كثرة المتسمُّون بالاسماء ([35])  ، فالحكمة تقتضي أن يوكل تشخيص مصاديق حجج الله وهداة البشر الى يوم القيامة وذكر أسمائهم الى الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ، فمن يرد أن يشرح الله صدره اتبع ماقاله الرسول صلى الله عليه واله ، ولم يفرق بين ما إذا كان المتكفل لذكر أسماء الحجج هو الله في كتابه او الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، وأما المعاند فهو مخالف سواء كانت أسماؤهم مذكورة في القرآن ام لا ( وما تفرقوا إلا من بعد ماجاءهم العلم بغياً بينهم ، ولولا كلمة سبقت من ربك الى اجل مسمى لقضي بينهم  ) ([36])  .

 

« والحمد لله رب العالمين »


 

الفهرس

 

مقدمة المحرّر                3

لكل قوم هاد                5

علي (ع) أولُ الهداة       5

بني هاشم هداة البشر                8

القرآن والامامة                9

لِمَ لم تذكر أسماء الهداة (ع) في القران                13

أمور أربعة في مقام الاجابة على السؤال                14

الامر الاول : السؤال عام ومطّرد      14

الامر الثاني : كفاية تعرّض القرآن لكبرى وأصل الامامة                16

الامر الثالث : السنّة شريكة القرآن      20

الامر الرابع : لحفظ القرآن من التحريف                25

الامر الخامس : الحفاظ على الهداة عليهم السلام      29

الفهرس                32

 

اللهم الْعَن أَوَّلَ ظالم ظَلَمَ محمد وآلِ محمد

وآخر تابع له على ذلك


 

 



([1]) الرعد : 7 .

([2]) السجدة : 24 .

([3]) مسند الامام احمد : 1/126 ، وفي طبعة اخرى : 2/227 رقم 1041 ، ورواه الطبراني عن شيخه الفضل بن هارون البغدادي عن ابن ابي شيبة في المعجم الصغير والاوسط ، تاريخ بغداد : 12/373 .

([4]) مجمع الزوائد : 7/41 ، قلت : أما عبدالله ابن الامام احمد فمجمع على توثيقه ، وكذلك عثمان بن ابي شيبة فهو كما قال ابن حجر في التقريب ثقة حافظ شهير وله أوهام وقيل كان لايحفظ القرآن ، المطلب بن زياد هو ابن ابي زهير الثقفي روى عن اسماعيل بن عبدالرحمن السدي وغيره ، وعنه عثمان بن محمد بن ابي شيبه وغيره ، وثقه الامام احمد وابن معين والعجلي وقال الاخير صاحب سنة وخير ، وقال ابو حاتم يكتب حديثه ولايحتج به ، وقال ابو داود هو عندي صالح ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال ابن عدي له احاديث حسان وغرائب ولم أر له حديثاً منكراً فأذكره وأرجو أنه لابأس به ، وقال ابن حجر في التقريب صدوق ربما وهم روى عنه البخاري في الادب والنسائي في الخصائص وابن ماجة ، مات سنة خمس وثمانين ومئة ، راجع تهذيب الكمال : ج28/78 .

وضعفه عيسى بن شاذان ، وابن سعد ، وتضعيفهما ازاء توثيق امام الجرح والتعديل ابن معين والامام أحمد وغيرهما من اعاظم الرجاليين لاعبرة به .

قال المحققان شعيب الارنؤوط وبشار عواد في تحرير تقريب التهذيب 3/376 رقم 6709 تعليقاً على قول ابن حجر «صدوق» : بل صدوق حسن الحديث فقد وثقه احمد والعجلي وابن معين في رواية وقال في رواية ليس به بأس ، وفي اخرى ضعيف وقال ابو داود صالح ، «محمد نجم» .

([5]) تفسير الطبري : 13/108 ، ونقله ابن حجر في لسان الميزان في ترجمة الحسن بن الحسين وقال : رواه ابن جرير في تفسيره عن معاذ ، ومعاذ نكرة فلعل الافة منه !!! .

([6]) المستدرك على الصحيحين : 3/129 قال : اخبرنا ابو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك حدثنا عبدالرحمن بن محمد بن منصور الحارثي حدثنا حسين بن حسن الاشقر ... ثم قال : هذا حديث صحيح الاسناد .

([7]) وهذه الفقرة الاخيرة «يعني نفسه» من تفسير الرواي ولم يصب ، اذ الهادي لاينحصر به عليه السلام ، فلكل زمان ولكل قوم هاد لهم من بني هاشم ، وفي زمانه عليه السلام هو الهادي للامة ، وهذا هو مفاد الاية الكريمة ، فليس «الهاد» منحصراً بعلي عليه السلام كما قد يتوهم ، ولو كان كذلك لحكمنا على القران بالجمود والاختصاص بقوم دون آخرين وزمان دون آخر ، وهو خلاف أنه نزل لهداية البشرية جمعاء من الاولين والاخرين ، «أبو أحمد» .

([8]) ونقله في الدر المنثور عن ابن مردويه ، وراه الحموي في فرائد السمطين : 1/148 عن الحاكم عن ابن ابي دارم بسنده الى ابي برزة الاسلمي .

([9]) ورواه ابن عساكر في تاريخه ، والحموي في فرائد السمطين : 1/148 .

([10]) بحار الانوار : ج23/3 .

([11]) النساء : 59 .

([12]) لقمان : 15 .

([13]) والاشارة إليه على نحو الايجاز : أن طاعة اولي الامر في الاية مقرونة بطاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه واله ، وطاعة رسوله واجبة على الاطلاق ، فطاعة اولى الامر كذلك ، لان «اولي الامر» معطوف على «الرسول» وحكم المعطوف والمعطوف عليه واحد ، اذ العطف يقتضي الاشتراك في الاعراب والحكم معاً كما ذَكَرَ النحاة ، وليس ثَمَّ دليل يقيد إطلاق طاعة الرسول في نمط خاص ، وكذلك أيضا ليس ثَمَّ دليل يقيّد طاعة اولي الامر ، فطاعة الرسول واولي الامر مطلقة ، فتجب العصمة في أولي الامر لوجوب طاعتهم على الاطلاق ، إذ ان الله لايأمر بطاعة من يخطأ ويشتبه ويغلط ، «محمد نجم» .

([14]) المائدة : 55 .

([15]) فاسم إنّ ضمير المتكلم وهو الياء في «إني» وخبرها «جاعل» .

([16]) ولمعرفة بعض المعاني المتسحصلة من هذه الاية ـ والتي هي أروع وأوضح آيات الامامة ـ راجع ما ألقيناه تحت عنوان «إني جاعل في الارض خليفة» .

([17]) ورواية « تركت فيكم كتاب الله وسنتي » إن صحت سنداً فهي لاتتصادم مع حديث الثقلين المشهور المستفيض ـ بل المتواتر ـ إذ سنّة الرسول صلى الله عليه واله ماهي إلا : قوله وفعله وتقريره ، ومن أقواله صلى الله عليه واله « اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي » فحديث «وسنتي» مؤكد على وجوب العمل والالتزام بمفاد حديث الثقلين المشهور ، هذا من جهة .

ومن جهة اخرى فإن معرفة سنّة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله بتمامها وكمالها لاتعرف إلا عن طريق أهل البيت عليهم السلام ، وهذا ماأشار إليه الرسول الاكرم صلى الله عليه واله في حديث آخر « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها » ، «محمد نجم» .

([18]) سلسلة الاحاديث الصحيحة : 4/355 حديث 1761 ، والمقصود من هذا الذي هو حديث العهد بصناعة الحديث الدكتور علي أحمد السالوس .

([19]) الفتح : 29 .

([20]) قال ابن عباس رضي الله عنه « ان الناس أبَوا إلا الغسل ولا أجد في  كتاب الله إلا المسح » رواه بسند صحيح كل من : الدارقطني في سننه : 1/96 رقم 5 ، وابن ماجة : 1/156 رقم 458 ، والبيهقي في سننه : 1/72 ، وعبدالرزاق في المصنّف : 1/22 رقم 56 ، واحمد بن حنبل في مسنده ، الفتح الرباني : 2/13 رقم 230 ، ونقله في كنز العمال عن عبدالرزاق وابن ابي شيبة وسعيد بن منصور وابي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ، وللتفصيل راجع كتاب « الوضوء غسلتان ومسحتان » .

([21]) كما هو صريح الايات المتقدمة والاحاديث المفسرة لها .

([22]) اذ الوحي ليس منحصراً بالقران كما هو واضح ، فكل ماجاء به الرسول الاكرم صلى الله عليه واله هو وحي بنص القرآن الكريم ( ان هو الا وحيٌ يوحى علمه شديد القوى ) وسيأتي توضيحه بشكل أوسع في الامر الثالث فانتظر .

([23]) هذا العبارة من الاحاديث المتواترة عند أهل السنّة والجماعة ، وإن كان ثَمَّ تشكيك في التواتر ففي قوله صلى الله عليه واله اتماماً لهذه الجملة « اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر معه الحق حيثما دار » ، «محمد نجم» .

([24]) الكافي ج1/286 ، وحصر الخمسة تحت الكساء من الاحاديث المتواترة عند العامة من أهل السنّة والجماعة فضلا عن الخاصة ، فراجع صحيح مسلم وبقية الصحاح وكتب الحديث ، ولو أن هذه الاية الكريمة تشمل نساء النبي صلى الله عليه واله ولو احتمالاً لكانت هي شعار حرب الجمل بدلاً عن قميص عثمان ، واللطيف أن السيدة عائشة تروي انحصار الاية في الخمسة أصحاب الكساء فراجع صحيح مسلم وغيره ، «محمد نجم» .

([25]) الكافي ج1/289 .

([26]) فالقران ـ كما في حديث الثقلين ـ الثقل الاكبر وهم عليهم السلام الثقل الاصغر ، وهذا كما لايخفى على الفطن المتعمّق بحسب عالم الاثبات لا الثبوت والتفصيل بحاجة الى كتاب .

([27]) ولا أحد من علماء المسلمين يدعي ان القرآن بأكمله من المحكمات عنده ، إلا أهل البيت عليهم السلام كما هو واضح لمن راجع أحاديثهم ، وهذه الاية من الايات الواضحة على ضرورة وجود شخص الايات القرانية بأكملها عنده من المحكمات والمبينات فاعرف ذلك ، ومعرفة المتشابهات والاحاطة بالقران هو العلم بالاسماء التي كانت الملائكة تجهلها فلم تستحق لان تكون خليفة الله ، «أبو أحمد» .

([28]) كل هذه الشقوق وغيرها ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل ، ثم أورد لكل شق شق بمثال من القرآن الكريم ، راجع البحار : ج93/3 .

([29]) ومن السخافة جزم واحتمال بعض المفسرين أن مصداق «من عنده علم الكتاب» هم اليهود والنصارى ، إذ علم الكتاب شيء وأهل الكتاب شيء آخر ، فكوننا أهل القران لايقتضي علمنا وإحاطتنا به ومعرفتنا بالناسخ منه والمنسوخ والعام والخاص والمجمل والمفصل والمتشابه والمحكم ، كما أنه هناك فرق كبير بين من «عنده علم الكتاب» ومن عنده «علم من الكتاب» ،  «محمد نجم» .

([30]) فكل من يجعل الحق مع علي عليه السلام في حربه لطلحة والزبير ومعاوية يقال له شيعياً ، وكل من يبغض ويلعن علياً عليه السلام ظاهراً شاهراً قال فيه أهل الجرح والتعديل من العامة « صلب في السّنة شديد على أهل البدع والاهواء » ، راجع كتاب «النَصْب والنواصب» للفاضل العلامة المحقق علي آل محسن القطيفي .

([31]) فالله سبحانه وتعالى قادر على ان يحفظ القرآن من التحريف بالامر الاعجازي لاباتباع نظام العلل والمعلولات ، ولكن هذا الامر خلاف الحكمة والعادة المتبعة من قبل الله عز وجل في تعامله مع الامم والاقوام ، فسنة الله واحدة لاتبديل ولاتغيير ولاتحويل فيها ، فكما أنه تعالى لم يتدخل بارداة اعجازية في الحول دون تحريف الكتب السماوية الاخرى الا بتعبيد الطرق وتهيئة المقدمات كذلك بالنسبة للقران الكريم لاارادة اعجازية في صرف من يريد تحريف القرآن الا باتباع نظام الاسباب والمسببات العادية وهو النظام الاحسن الذي يحكم عالم الوجود المشار إليه في قوله تعالى ( ثم أتبع سببا ) ، «ابو أحمد» .

([32]) وكذلك أيضاً لو ذكرت أسماء المنافقين في القرآن ، والعجب أنه بعد وفاة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله شطب على ملف المنافقين وكأن لم يكونوا من قبل ، ولم تنزل فيهم الايات الكثيرة !!!

([33]) الصف : 6 .

([34]) اما لو كان حفظه دائماً بالاعجاز الالهي لَمَا كان موضعاً للقدوة والاسوة في تصرفاته وحركاته .

([35]) فكم وجدنا من تسمى بالمهدي وادعى بأنه المصلح المبشّر به من قبل الرسول الاكرم صلى الله عليه واله .

([36]) الشورى : 14 .